مات سليمان القانوني أكثر السلاطين الأتراك طموحاً. ما أن مات حتى قُتل الطبيب الذي كان يُعايده و هو على فراش الوداع. ما كان المقتول طبيبه الخاص و لكنه كان أمهر الأطباء في الإمبراطورية . تعرف حاشية سليمان إن مرضه لا يُداوى و لكنهم سعوا ما أمكنهم أن يبقوا الروح فيه فجلبوا ذاك الطبيب المسكين عسى أن يحييه. لا الأطباء و لا غيرهم يستطيعون أحياء الموتى. هذه قدرة لم يمنحها الله لأحد إلّا لنبيه عيسى عليه السلام حين أيّده بالروح القُدس فصار يحي الموتى و يبريء أمراض و إعاقات أخرى...
قيل أن الطبيب قُتل مخافة أن ينتشر خبر موت سليمان بين جيشه الذي يُقاتل تحت قيادته الإسمية بعد أن أقعده المرض. كان الجيش يُهاجم حصنا منيعا في المجر الحالية اعترضه و هو يشق طريقه نحو فيينا النمساوية حيث كانت رغبة سليمان أن يضمها إلى ملكه.
•••
على قاعدة الغزو و الاحتلال قامت تركيا. في نشأتها اجتاحت القسطنطينية ؛ محج المسيحيين الشرقي ، و اتخذته عاصمة أسمتها اسطنبول .
منذ قيامها ظلت أوروبا ترى في تركيا تهديدا لها.
كانت دولة تجرد الجيوش و تخوض الحروب حتى غدت امبراطورية ؛ و ظلت تتوسع إلى أن هُزمت و حلفاؤها في الحرب الأوروبية (العالمية) الأولى . ترتيبا على نتيجة تلك الحرب ابرم الأوروبيون معاهدة سيفر Sèvres التي أرادوا فيها التخلص من تركيا. كان تجريدها من كل الجغرافيا التي احتلتها و تدويل عاصمتها اسطنبول و ما حولها هدفا مرحليا نحو ذلك. في تلك المعاهدة لم يُبقي الأوربيون لتركيا إلا ما ينطق بلسانها من الجغرافيا. لم ينقذ تركيا الا مصطفى كمال اتاتورك. فعل ذلك بثمن باهظ جوهره تجريد البلاد من مقومات إنتمائها للشرق. دينها و لغتها.
تبرأت تركيا من دينها و استبدلت باللاتينية حروف لسانها.
•••
خنق اتاتورك تركيا الشرقية الإنتماء ليميتها، مثلما فعل اسلافه مع طبيب السلطان سليمان من أجل أن يبعث تركيا اخرى تكون أوروبية الهوية و الهوى..
بفعله استعاد أتاتورك إلى تركيا من الأراضي كردستان و لواء الأسكندرون العربي و المضايق البحرية و بحر ايجه و جزره و كل الجانب الأوروبي منها فصارت ما هي عليه حالياً . كل ذلك تم بموجب معاهدة انقرة بينه و فرنسا التي أسكتت بقية القوى الأوروبية و أميركا. كانت فرنسا قوة عظمى بين القوى المنتصرة في الحرب الأولى...
لاحقاً سعت أوروبا إلى تأهيل تركيا التي ترغبها . ضمتها في حلف الناتو و وعدتها بالإنضمام إلى سوقها ثم لاحقا كيانها. ظنت تركيا أنها صارت من أوروبا، بعد ان كان سلاطينها يريدون لأوروبا أن تكون جزءً منهم؛ لكنها اكتشفت انها مهما فعلت لن تقبلها اوروبا...
•••
على خلفية نهوضها الإقتصادي في أواخر القرن الماضي و يقظتها الدينية التي سادت بين الناس عادت لأوربا هواجسها القديمة نحو تركيا و صارت تتوجس من طموحها...
من المؤكد ان اوروبا في حيرة مع تركيا. في تركيا شعب مبدع خلّاق استطاع أن يحول بلاده إلى قوة اقتصادية و لكنه في هويته بعيد عن أوروبا. أوروبا تريد الأتراك على هويتها جغرافيا و قوة بشرية ؛ و الأتراك يريدون أوروبا على هويتهم. لا أوروبا تقبل و لا الأتراك يستطيعون.
•••
ستظل أوروبا تنظر إلى تركيا كجار دخيل انتزع مكانه بينها بالقوة ؛ و إذا كانت مصالح فرنسا الأمس دفعتها نحو معاهدتها مع تركيا، فإن مصالح فرنسا اليوم على خلاف عميق مع تركيا فيه الأرمن و فيه الأكراد و فيه مخاوف أوروبا القديمة الدائمة من تركيا الطامعة في أوروبا إذا قويت...
قد تعتقد تركيا أن وجودها في الناتو يشفع لها.
الناتو مثلما قال ماكرون فرنسا ميت ، و هو إذا لم يُدفن اليوم فسيدفن غداً. لا أحد من القوى الفاعلة في أوروبا يريده . الحلف فرضته أميركا و ليس في يدها حالياً ما تقنع به اوروبا إلا التخويف من روسيا. ربما تُفلح روسيا في التوافق مع أوروبا على نظام أمن فاعل على النحو الذي كان سائداً قبل الحرب الأولى؛ فينتهي الحلف إلى قالب من السياسة...
•••
تشبه حالة تركيا مع أوروبا حالة من استولى على بيت لجاره بالقوة و اقام فيه بنية تملكه. لا مالك البيت ينساه؛ و لا الساكن بالقوة ينعم فيه بالإطمئنان؛ و لذلك لن تتوقف أوروبا عن مساعيها إلى أن تستعيد من تركيا محجها القديم ؛ القسطنطينية الذي انتزعته منها ..
المؤسف أن قادة تركيا اليوم وهم يقلبون الظهر لأوروبا ؛ يستعيدون الدين في مواجهتها ليغازلوا به العرب بالذات ؛ و هم يتخذون من مآسيهم سلاحا لهم . ليس تهديد أوروبا باللاجئين السوريين ؛ أو الإتكاء على ليبيا الميتة إلا صورة من ذلك ...