في يوم 9 يناير من عام 1961م وصل الشاب
الفلسطيني واصف الطاهر الى مطار طرابلس
للعمل في وظيفة مترجم بوزارة المالية؛
و قد كتب في مذكراته:
الوصول إلى ليبيا
من مطار طرابلس الدولي إلى قلب المدينة،
حسبت لأول وهلة أن هناك خطأً ما؛ وأنني في الطريق من مدينة الرملة الفلسطينية إلى مدينة يافا، فقد كانت السيارة تسير عبر مزارع البرتقال، فيما كان الهواء يحمل إلينا بسخاء اريج زهرها المعطر.
في الصباح توافد الزملاء على مكتبي مرحبين على نحو أَنساني غربتي البعيدة، وحنيني الجارف إلى الأهل والأصدقاء. عندما عدت إلى الفندق اتصلت بأسرتي في عمان، وقلت لوالدتي:
لا داعي للقلق، فقد وجدت هذا البلد أفضل بكثير من كل ما سمعت وتوقعت.. أنا هنا بين اهلي وعشيرتي.. أنا هنا في وطني الثاني. وللمرة الأولى منذ ايام نمت نومًا طويلًا عميقًا.
أهل كرم
من عادة الحكومة الليبية ان توفد من يستقبل موظفيها الجدد، وأن تستضيفهم خلال الأيام الثلاثة الأولي لوصولهم، وقبل انقضاء أيام الضيافة وجدت سكنا مناسبا أقيم فيه مع رفيقي السفر. كانت شقة متواضعة في مبنى من طابقين في زنقة " الهنشير " المتفرع من شارع ميزران، مالكها رجل فاضل اسمه الحاج يونس صاحب المخبز المجاور أو ما يطلقون عليه "كوشة" بإيجار مناسب وهو عشرون جنيها فقط في الشهر. وعندما انتهى الشهر الأول واستحق الإيجار، فكرت في ان قسمة العشرين جنيها على ثلاثة أشخاص قد تثير مشكلة حسابية مستعصية، فذهبت للمالك مقترحا رفع الإيجار إلى واحد وعشرين، ليدفع كل واحد منا سبعة جنيهات حلًا للمشكلة ونرتاح من الكسور، قهقه الحاج يونس طويلًا قبل أن يجيب: "انت اكرم من اشكون"، الإيجار ينزل إلى ثمانية عشر جنيها، يدفع كل منكم ستة هذا هو الحل بشرط ان نشرب طاسة شاي الآن.
طرابلس عاصمة رائعة، تجمع بين ضخامة المدن الكبيرة بشوارعها المنسقة وميادينها الفسيحة، وبين وداعة المدن الصغيرة ببساطتها وألفة أهلها. وفى الواقع كانت الغالبية العظمي من الليبيين الذين تعاملت معهم سواء في الوزارة أو خارجها على قدر كبير من الطيبة والتسامح والنبل وحسن الوفادة.
اليوم الأخير
16 يناير 1976 كان موعد مغادرتنا طرابلس، وصل خليفة سائق الوزارة الذي تبرع مشكورا بمرافقتنا إلى المطار بسيارته الصغيرة الخاصة، ومعه شقيقه بسيارته الكبيرة. وقاما بنقل الحقائب وتحرك الركب عبر شوارع شهدت أحلي سنوات العمر، ولم أكن بحاجة إلى آلة تصوير لالتقط هذه الصور الوداعية، فقد كانت ذاكرتي تختزن الصور تسجلها على نحو لا يمكن للزمن أن يمحوه. في المطار أفرغ خليفة الحقائب والصناديق، وعلق موظف الطيران: أخي عندك وزن زائد. فأجبت: اعرف يا اخي لأننا نغادر نهائيا بعد 15 عامًا وانا جاهز للدفع وأخرجت النقود فقال: "خلى الفلوس في جيبك"، يكفي أنك خدمتنا خمسة عشر عاما. وناولني التذاكر قائلا: رحلة سعيدة ومرحبا بك في وطنك الثاني ليبيا وفى أي وقت."
لم يسكن هذه المفازة في
تاريخها أوباش؛
و إن حكمها بعضهم في فترات منه..
الفلسطيني واصف الطاهر الى مطار طرابلس
للعمل في وظيفة مترجم بوزارة المالية؛
و قد كتب في مذكراته:
الوصول إلى ليبيا
من مطار طرابلس الدولي إلى قلب المدينة،
حسبت لأول وهلة أن هناك خطأً ما؛ وأنني في الطريق من مدينة الرملة الفلسطينية إلى مدينة يافا، فقد كانت السيارة تسير عبر مزارع البرتقال، فيما كان الهواء يحمل إلينا بسخاء اريج زهرها المعطر.
في الصباح توافد الزملاء على مكتبي مرحبين على نحو أَنساني غربتي البعيدة، وحنيني الجارف إلى الأهل والأصدقاء. عندما عدت إلى الفندق اتصلت بأسرتي في عمان، وقلت لوالدتي:
لا داعي للقلق، فقد وجدت هذا البلد أفضل بكثير من كل ما سمعت وتوقعت.. أنا هنا بين اهلي وعشيرتي.. أنا هنا في وطني الثاني. وللمرة الأولى منذ ايام نمت نومًا طويلًا عميقًا.
أهل كرم
من عادة الحكومة الليبية ان توفد من يستقبل موظفيها الجدد، وأن تستضيفهم خلال الأيام الثلاثة الأولي لوصولهم، وقبل انقضاء أيام الضيافة وجدت سكنا مناسبا أقيم فيه مع رفيقي السفر. كانت شقة متواضعة في مبنى من طابقين في زنقة " الهنشير " المتفرع من شارع ميزران، مالكها رجل فاضل اسمه الحاج يونس صاحب المخبز المجاور أو ما يطلقون عليه "كوشة" بإيجار مناسب وهو عشرون جنيها فقط في الشهر. وعندما انتهى الشهر الأول واستحق الإيجار، فكرت في ان قسمة العشرين جنيها على ثلاثة أشخاص قد تثير مشكلة حسابية مستعصية، فذهبت للمالك مقترحا رفع الإيجار إلى واحد وعشرين، ليدفع كل واحد منا سبعة جنيهات حلًا للمشكلة ونرتاح من الكسور، قهقه الحاج يونس طويلًا قبل أن يجيب: "انت اكرم من اشكون"، الإيجار ينزل إلى ثمانية عشر جنيها، يدفع كل منكم ستة هذا هو الحل بشرط ان نشرب طاسة شاي الآن.
طرابلس عاصمة رائعة، تجمع بين ضخامة المدن الكبيرة بشوارعها المنسقة وميادينها الفسيحة، وبين وداعة المدن الصغيرة ببساطتها وألفة أهلها. وفى الواقع كانت الغالبية العظمي من الليبيين الذين تعاملت معهم سواء في الوزارة أو خارجها على قدر كبير من الطيبة والتسامح والنبل وحسن الوفادة.
اليوم الأخير
16 يناير 1976 كان موعد مغادرتنا طرابلس، وصل خليفة سائق الوزارة الذي تبرع مشكورا بمرافقتنا إلى المطار بسيارته الصغيرة الخاصة، ومعه شقيقه بسيارته الكبيرة. وقاما بنقل الحقائب وتحرك الركب عبر شوارع شهدت أحلي سنوات العمر، ولم أكن بحاجة إلى آلة تصوير لالتقط هذه الصور الوداعية، فقد كانت ذاكرتي تختزن الصور تسجلها على نحو لا يمكن للزمن أن يمحوه. في المطار أفرغ خليفة الحقائب والصناديق، وعلق موظف الطيران: أخي عندك وزن زائد. فأجبت: اعرف يا اخي لأننا نغادر نهائيا بعد 15 عامًا وانا جاهز للدفع وأخرجت النقود فقال: "خلى الفلوس في جيبك"، يكفي أنك خدمتنا خمسة عشر عاما. وناولني التذاكر قائلا: رحلة سعيدة ومرحبا بك في وطنك الثاني ليبيا وفى أي وقت."
لم يسكن هذه المفازة في
تاريخها أوباش؛
و إن حكمها بعضهم في فترات منه..