( قل يا أهل الكتاب لاتغلوا في دينكم غير الحق
ولاتتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل
وأضلوا كثيرا
وضلوا عن سواء السبيل ) سورة المائدة آية 79
عرضت لــ هذه الآية الكريمة في " القبسة " الماضية بشيء من التفصيل ووردتني حولها بعض الاستفسارات والملاحظات فــ أحببت أن أعود إليها أنهل من فيضها
وأستأنس بذكرها وأستنير بنورها فــ كتاب الله أنس للقلب
وراحة للروح وهدي للعقل
وهو الذكر الحكيم الذي لايمل قارئه ترداده فهو الحسن المتجدد مع كل نظرة وكل تلاوة فــ كلما عدت إليه نفخ فيك روحا وأنسا وهديا وراحة وإذا كان المرء يانس لكلام السادة والكبار والعظماء فـ كيف لايانس لـ كلام مولاه تبارك وتعالى ؟
(يزيدك حرفه حسنا /// إذا مازدته نظرا )
يقول الإمام " ابن قيّم الجوزية" عن هذه الآية
( انقسم الناس بــ حسب معرفة الحق ثلاثة أقسام
ــــ لأن العبد إما أن يكون عالما بالحق عارفا له
ـــ وإما ان يكون جاهلا بالحق
والعالم إما أن يكون عالما بما يعلم
أو يكون عاملا بخلاف مايعلم
فـ هذه ثلاثة أقسام تشمل العباد المكلفين
فالعالم العامل بالحق هو المنعم عليه وهو الذي زكى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وهو المفلح ( قد أفلح من زكاها )
والعالم المتبع لــ هواه هو المغضوب عليه
والجاهل بالحق هو الضال
والمغضوب عليه ضال عن هداية العمل
والضال مغضوب عليه لضلاله عن الموجب للعمل
فــ كل منهما ضال مغضوب عليه
ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به
ومن هاهنا كان اليهود أحق بوصف " المغضوب عليهم " وهو متغلظ في حقهم
والجاهل بالحق أحق باسم الضلال ومن هاهنا وصفت النصارى به في قوله تعالى
( قل يا أهل الكتاب لاتغلوا في دينكم إلخ ) فــ نهاهم عن اتباع " قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل " والذين ضلوا من قبل وأضلوا غيرهم وهم اليهود فقد اختاروا الضلال عمدا وهم (يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ) ولكنهم اختاروا طريف الضلالة حسدا وكفرا وعنادا وكراهية لرسول ليس منهم
وكذلك تفعل " العصبية " و"الحسد " فهي تعمي البصيرة في كل زمان ومكان )
وهذا النص من كتاب " مدارج السالكين " صفحة 17 لابن قيم الجوزية
وهذا الكتاب كتبه الإمام ابن القيّم تهذيبا لكتاب (منازل السائرين) للإمام شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي الحنبلي
المتوفى عام 481 هــــ
وكان كتاب " منازل السائرين " قد أثار ضجة كبيرة وتأوله " الصوفية تأويلات " خرجت به عن أصله وحملوا عليه أقوالا وأضيفت إليه تعليقات كثيرة واستغله المبتدعة فذهبوا في تفسيره مذاهب غريبة فـ عزم الإمام ابن القيم على تهذيب الكتاب فسمى تهذيبه ( مدارج السالكين بين إياك نعبد وإياك نستعين ) وذلك لــ محبته الخالصة للإمام الهروي ولمعرفته بصفاء عقيدته وسلامة طويته وقد دافع عنه في الكتاب دفاعا حارا صادقا وقال كلمته المشهورة ( إننا نحب الإمام الهروي محبة خالصة لله ... وكان الإمام ابن تيمية يقول عنه " الهروي عمله خير خي من علمه " وقد نشك في كلامه ولكننا لانشك في عقيدته لأننا نعرف صفاء نفسه " وأضاف إليه ابن القيم
" وصدق الإمام ابن تيمية فسيرة الإمام الهروي معروفة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد أهل البدع ولايشق له غبار في هذا "
ثم يعلق على بعض زلاته في تأويلاته فيقول " وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لاينطق عن الهوى "
وفي الحق أن كتاب " مدارج السالكين بين إياك نعبد وإياك نستعين " واضح من عنوانه فهو "قبسات روحانية عالية من " سورة الفاتحة ولهذا جعل ميزان السالكين إلى رب العالمين بين
ــــــــ إياك نعبد
ـــــ وإياك نستعين
فــ هما ميزان " السالكين إلى رب العالمين "
والكتاب من الحجم الكبير يقع في 1150 صفحة أو تزيد كله قبسات من "سورة الفاتحة " على ضوء الميزان ... اياك نعبد وإياك نستعين ليس غير
وفي استهلال الكتاب يقول الإمام ابن القيم عن كتاب الله تعالى
( أنزله مولانا لنقرأه تدبرا / ونتأمله تبصّرا / ونسعد به تذكرا / ونحمله على أحسن وجوهه ومعانيه / ونصدق أخباره ونجتهد على إقامة أوامره ونواهيه
فهو كتابه الدال عليه لمن ارد معرفته وطريقه الموصلة لسالكها إليه ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات ورحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات )
ويمضي في هذا البيان المشرق بنور القبسات الإيمانية الربانية حتى يتوقف أمام الجاهلين بالقرآن أو المتجاهلين لهديه وفيضه ونوره الذين يركضون وراء توافه الكتب وسفاسف المعرفة ونوافل القول وفوارغ الحروف فــ يقول في حرارة
( وظنت خفافيش البصائر انها الغاية التي يتسابق إليها المتسابقون ( يقصد المعارف الفارغة ) والنهاية التي تنافس فيها المتنافسون وتزاحموا عليها / وهيهات هيهات
اين السهى من شمس الضحى ؟ واين الثرى من كواكب الجوزاء ؟ واين الكلام الذي لم تتضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم / من النقل المصدق عن القائل المعصوم ؟ واين الأقوال التي أعلى درجاتها أن تكون سائغة الإتباع / من النصوص الواجب على كل مسلم تقديمها وتحكيمها والتحاكم إليها في كل نزاع ؟ )
حتى يصل الغاية ليقول لنا كلمته الخالدة البليغة العالية
( وأين المذاهب التي إذامات أربابها فهي من جملة الأموات ؟
من النصوص التي لاتزول إذا زالت الأرض والسماوات ؟ )
عفوا سادتي / قبسات الليلة توكأت فيها على الإمامين
الإمام الهروي الحنبلي
والإمام ابن قيم الجوزية
وكلاهما جدير بالتقدير
وكلاهما يقبس من الذكر الحكيم قبسات نور ميزانها
(إياك نعبد
وإياك نستعين)
وبينهما يراجع المؤمن نفسه ل
يجد نفسه في ميزان
" اهدنا الصراط المستقيم "