( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه
خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة
ذلك هو الخسران المبين ) سورة الحج آية 11
بدأت السورة بــ النداء العام تحذيرا وتذكيرا وتنبيها وتنويها ( يا أيها الناس )
أما هنا فــ الناس أصناف وأطياف واختلاف وربما حتى خلاف
فمن " الناس " عباد لله أخلصوا العبادة فهم من أهل ( إياك نعبد وإياك نستعين )
أي عبادة لله تعالى بلا شريك واستعانة به بلا وسيط
ومن " الناس " ( من يجادل في الله بغير علم ولاهدى ولاكتاب منير ) وهو
" يجادل " كأنه نسي أنه هو وعقله وفهمه وإدراكه خلق من خلق الله تعالى فهو
ـــ حين يجادل في مولاه ــــ عبد ممسوخ من شيطان
يجادل في مولاه وهو عبد مسخ عبوديته فــ تشيطن فبقي ملعونا
وهو يجادل في الله (ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي
ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ) وهو بين الخزي في دنياه والحريق في أخراه
يسلخ عبوديته فلا يبقى فيه منه إلا الطين يطن ثم يطن ثم يذوب حين يدهمه سيل
الحقيقة ينثره قطعا قطعا بين الأشجار والصخور يشهد على نفسه أنه عبد ممسوخ
ومن " الناس " من يعبد الله .. ولكنه يعبده بـ شرطه هو كأنه تسي أنه " عبد " وأن العبد لايشترط على مولاه
فــ العبودية عبادة ولاشرط
والشرط تمرد ولاعبودية
فــ العبودية إن لم تكن خالصة صافية كانت لعنة على العبد وشهادة على مسخه وشكه وقلقه وحيرته التي " تزلزل فيه روحه " قبل " زلزلة الساعة " التي هي شيء عظيم فهو من سوء حظه يعيش الزلزال العظيم قبل أوانه ثم لايفطن له
قد ذهبت به هواجسه فــ اشترط أن يكون عبدا لله على " مصلحته " و" غايته " الرخيصة كأن " العبادة " نوع من " التجارة " للكسب والثراء
فــ هو (يعبد الله على حرف ) أي على شك وقلق وعلى غاية رخيصة
يرجومن وراء عبادته منفعته ومصلحته وغايات الدنيا الرخيصة البخيسة
فــ هو (إن أصابه خير اطمأن به ) فــ هو " لايطمئن " بــ ذكر مولاه الذي تطمئن بذكره القلوب وإنما هو يطمئن إلى سفاسف الدنيا وشهوات التراب وهو من سوء فهمه وسوء حظه يرى ذلك " خيرا" وماهو بالخير إن هو إلا " متاع الغرور" يركض وراءه المغرور يراه خيرا ويقول مولانا عن هؤلاء ( إن الإنسان لربه لكنود / وإنه على ذلك لشهيد / وإنه لحب الخير لشديد / )
هؤلاء الذين " يعبدون الله على حرف " أي على غايتهم وشرطهم وشهوتهم بشكهم وقلقهم وحيرتهم فرغت أرواحهم من " إياك نعبد " فلم يحققوا في "الروح " معنى العبودية الخالصة التي هي " تسليم العبد لــ مولاه " بلا جدال ولاغاية ولاشرط
فــ العبد لايشترط ولايجادل وكيف يجادل المؤمن و"قلبه مطمئن " بالله
فــ الإيمان " تغيير " كامل في النفس ينقلها من " النفس الأمارة بالسوء " إلى النفس " التي رحمها ربها بهدايته " وينتقل بها الإيمان من " النفس اللوامة " إلى " النفس المطمئنة " ولدينا دليل لايقبل الشك ولا حتى الجدال على " التغيير الجوهري " الذي يصنعه الإيمان في المؤمن وهو ما رأيناه في " الصحابة العظماء " و"الفاتحون الأوائل " الذين كان العالم القوي يتقاذفهم ويلعب بهم ولم يكونوا " شيئا مذكورا " ولاحتى شيئا " محسوبا " ثم
ـــ وفي ظرف وجيز ــ صاروا سادة الدنيا وقادة العالم
هذا هو الإيمان وهو واقع وتاريخ معروف موصوف وحقيقة لاشك فيها
أمة كانت " قبلئل متحاربة متضاربة " انقلبت في يوم وليلة إلى " أمة واحدة تعتصم بحبل الله وتبلغ رسالة الله وتنشر العدل والحق وتفتح العواصم العنيدة "
ههذا ليس تمجيدا ولاهو " اسطورة" ولاهو مبالغة ... بل هو واقع
وهو الدليل على معنى " العبودية الخالصة لله "
الــ " عبودية لله " هي انعتاق وحرية مطلقة من أدران الدنيا ورغباتها
والعبودية لله تعالى تعني الحرية المطلقة من كل عبودية أخرى
فــ المؤمن " عبد لله " ولكنه سيد الكون لأنه لايرجو منه شيئا
هو يستغني عن الكون كله والحكمة تقول " استغن عن من شئت تكن أميره "
والمؤمن لايحتاج لـ غير الله ولايستعين بغير الله والحكمة تقول ( استعن بمن شئت تكن أسيره ) فـ المؤمن المستغني عن غير الله ليس أسيرا لغير الله
ماحدث في الصدر الأول للإسلام حقيقة لاتقبل الشك
وهو حقيقة لاتفسير لها إلا الإيمان الذي بذره الإسلام في النفوس
فــ محمد صلى الله عليه وسلم لم " يستورد عربا من خارج الجزيرة " بل هم العرب الجاهليون الذين كان يسوقهم " الفرس والروم " سوقا عنيفا ويسخرون منهم ويعبثون بهم وكانوا مطمعا لكل الغزاة وفي عام مولد الرسول العظيم تعرضت الكعبة ـــ وهي مفخرتهم ومحجهم ــــ للغزو على يد " أبرهة " صاحب الفيل
وكان ذلك الغزو وماحدث فيه إشارة وبشارة بــ مولد التغيير وصاحب التغيير
هؤلاء مؤمنون لم يكنوا يعبدون " الله على حرف " بل كانوا يعبدونه عبادة التسليم المطلق والإيمان الخالص فهو " نعم المولى ونعم النصير "
يقول أحد الصالحين ( حياة القلب الذي يموت / ذكر الله الذي لايموت )
ويقول غيره ( ما أعطي العبد شيئا أفضل له من علم يزيده افتقارا إلى الله )
ويقول آخر ( تشوفك إلى مافيك من العيوب / خير لك من تشوفك إلى ماحجب
عنك من الغيوب )
وسئل أحدهم / كيف ترى الدنيا ؟
فقال / شغلتني عبادة ربي عن دنياه
وسئل أحدهم ماهو أعجب شيء في الدنيا ؟
فــ قال .... قلب عرف الله ثم عصاه
وقيل لأحدهم لماذا أنت لاتغتاب أحدا ؟
فــ قال / لست راضيا عن نفسي حتى أتفرغ لـــ ذم غيري
وقيل لأحدهم / ماهو الكمال
فـــ قال / الكمال ألا تذم أحدا بــ عيب هو فيك
وألا تمدح أحدا بــ كمال أنت محروم منه
والإيمان الخالص يجدسده الحليفة الأول أبوبكر الصديق وهو يودع " المجاهدين " الذين ينطلقون للفتوحات الإسلامية قائلا لهم كما روته عنه كل الدنيا
( انطلقوا على بركة الله تعالى
لاتستعينوا بغير الله فغن من استعان بغير الله خذله الله
ولاتعتدوا فإن الله لايحب المعتدين
لاتقطعوا شجرة ولاتهدموا جدارا ولاتقتحموا على أحد دارا
ولاتروّعوا آمنا ولاتفزّعوا مسالما
ولاتركنوا إلى الدنيا فإن من ركن إلى الدنيا أذله الله بها )
واقترب الخليفة حتى وقف بينهم وتأملهم طويلا قبل أن يقول كلمته الخالدة
( اطلبوا الموت .... تتوهب لكم الحياة )
وتلك نصيحة في مجملها هي من "قبسات الإيمان " الذي غير العرب في تلك الجزيرة فــ تغيرت نفوسهم فاستطاعوا تغيير العالم فــ (الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) وهم غيروا ما بأنفسهم فـــ تغيروا وغيروا الدنيا كلها
أولئك هم أهل ( إياك نعبد وإياك نستعين )
عبادة خالصة وليست على حرف وشرط وغاية رخيصة
واستعانة مطلقة فإن من استعان بغير الله أهانه الله وأوكله إلى نفسه


