شريط طويل يمر بالذاكرة كلما أيقظ لهيبها ذِكرا عنهم .. يشتعل أفق الخيال كلما لفحت ريحا منهم جمر أرواحنا الخامد .. ألسنتنا تتلعثم وعقولنا لاتجيد تتبع المتاهة وحل ألغازها .. نستجمع ماقرأنا تاريخا وثقافة ودينا وشعرا وأدبا .. نبحث عن شئ يشبه الحدث أو يتطابق مع الزمن أو يتعلق بالمكان .. نفتش بعمق لكن رصيد الماضي يقاوم سلبية التقييم .. نثور في لحظة غضب ، ترسم شفاهنا تعبير حيرة . تتقوس حواجبنا بكم تعجب ، تهتز رؤوسنا بفوضى إستفهام ، ترتفع أيدينا لتحسس ديناميكية العقل ، نبحث في مخازن اللغة ، نلامس حواف المعاني ، نمسك أعنة الكلم بين الفرح والجرح ، نوقظ براكين المشاعر نفخا في الروح ، نغوص في دهاليز الكون والتكوين ، نسبر أغوار الحقيقة على أطراف الحروف ، تقف عصية عن البوح ، تتثاقل أجسادنا في لحظة تسرب المعاني بين أناملنا ، تفلت نواصي النبض فتربك الفكر ، فهم كانوا نحن لونا وشكلا وأصلا وغدا ، نمارس طقوس البراءة بين البيت والبيت ، نعد الخطى المتمردة بين الغياب واللقاء . نسابق الأنفاس المجنونة بين السلام والكلام ، نطير بأجنحة الشوق الجامح بين الشروق والمغيب ، نشبك عند الخوف اليد باليد ، نمر بين الأخر بكبرياء الكتف بالكتف ، ونقتسم الرغيف ، وجنون الصبا ، وحكايا المساء ، ووصايا الجدات ، وأحلام الغد .
كبرنا وكبر كل شئ فينا ، وأعتقدنا أننا نقشنا كل شئ في لحم أجسادنا ، وذاب ليصبغ لون دمائنا التي لاتشبه غيرنا ، وتفاعل بكيمياء مدفون سرها منذ ماقبل الحديد والنار ، وأنتج طعم حروفنا ولون ضحكاتنا ، وشكل بخطوط كل من مروا عشاقا وفرسانا ملامح وجوهنا ، تلك الممزوجة بطين الأرض ، وأحجارها الصماء ، وصقيع شتائها الغاضب ، وكبرياء نخيلها السامق ، وعذوبة هوائها المعطر بالزعتر والليمون ، وسحر رمالها الممتلئة غيرة ، تعاكس خيوط الشمس الذهبية . فلا نحن بدونهم ولاهم بدوننا ، حتى أننا أستهزأنا بمن قاده الحديث عن تعدديتنا .
ذات قدر كتب علينا وهو كره لنا .. أطلت الحرب برأسها في فوضى ظنناها سحابة صيف ، ليس شكا في نوايا عدونا الذي أعددنا له ما أستطعنا من قوة ورباط الخيل . ‘ بل ثقة عمياء في من حولنا الذين جمعنا تاريخ حافل أثاره منقوشة في أكاكوس وتيبستي ، وشواهده تنتصب بصاري السرايا الذي لاينساه قراصنة الكاوبوي ، وملاحمه ترويها بقايا قطع مختومة بشعار غطرسة مجنونة أنهارت أحلامها ذات مواجهة على الشواطئ العصية لتكون وجبة شهية للأسماك ، وحضارة تركت بصماتها من جرمة حتى شحات ، ورموز مازال يتردد صدى علومها من تمبكتو حتى الأندلس .
كانت أعيننا على البحر تترصد غربان الموت الذين لم تهدأ نيران أحقادهم بهزائمهم منذ الامبراطورية الرومانية حتى كازي روما ، بينما قلوبنا عندهم تتبع أخبارهم وتوصيهم بأنفسهم وتستمد عنفوانها من وجودهم ، فالجدار لن يسقط لأنهم خلفنا كالبنيان المرصوص ، أو هكذا أعتقدنا ببراءتنا وربما بطيبتنا وسذاجتنا .
خف الرنين والسؤال ، كما شح المطر عنا منذ كفر بعضنا برغيف الخبز ليجعله طعام أغنامه ، لكن للظرف أعذاره ، والعقل لايتخطى التبرير ، ويحبس نفسه في دائرة الواحد حبا ووجودا ومصيرا .
بعد شهور الصمود وصلت فوضى الحرب بيوتنا ، وأطبقت الفجيعة علينا حتى أنحسر التركيز بين النظر والخبر ، وخطانا بين الرصاص والمقابر ، وأجبرنا على التفرق حتى عن أهلنا ، ورأينا من المشاهد ما أيقظ الألم فينا ، وصب الملح على جراحنا ، وحبس الأنفاس فى صدورنا .
مرت الصدمة الأولى ، وبدأنا نتحسس دوائرنا ، فإذا الرفيق في الضفة الأخرى ، والجار يعلن البراءة منا ، والقريب يدلي بشهادة تقود لموتنا ، والأخرين صفوف بين همس لاتخفيه الشفاه يخترق مساحة الكيد ، ووسوسة ماكرة تتبعها نظرة سافرة تفض بكارة الود ، وخطى أقصى أدابها طلب الإذن لتفتيش بيوتنا التي كانت تصدح بضحكاتهم وترتسم جدرانها بأنفاسهم وتمتلئ حياة بوقع أقدامهم .
أسئلة لا إجابة لها تصعب على البوح ، وصقيع يسرى في أوردتنا لانقوى على مقاومته ، وأشواك تزرع في أجسادنا التي تصحرت من عقم الفهم .
هل كان كل شئ مكتوب بقلم رصاص عابث ضاعت ملامحه مع أول جرة ممحاة ؟ ، هل كان نقش على الرمل تبعثر عند أول نسمة هواء ليس عليل ؟ ، هل كان حلم ؟ ، هل كان وهم ؟، هل كان خيال ؟، هل كان إحتمال ؟، هل كان تمثيل أبدع مخرجه حتى ظنناه حقيقة كتلك الرسوم التي صاحبت أحلامنا البريئة .
لكنها للأسف الحقيقة التي تأبى نفوسنا تصديقها ، لأنها تخشى إنقلاب المفاهيم وتشويه التاريخ وقساوة القلب ، رغم أننا من الوعي والفهم مانعرف بأنه كمثل الذين خلوا من قبلنا مستهم البأساء والضراء وزلزلوا ، فأخر الأنبياء حاربه عمه ، ونوح عصاه إبنه ، ولوط خانته امرأته ، ويوسف تأمر عليه أخوته ، ومانحن إلا على دربهم مبتلون ومطعونون من أرحامنا ورفاقنا وعشيرتنا الأقربون .
لكن الأكثر جدلا داخل أنفسنا ، هل نعود ؟، هل ننسى ؟، هل نطوي الصفحة ؟،. هل نقبل العذر ؟، هل يمكن للجرح أن لايترك أثرا ؟، هل تقوى اليد أن تمتد لأخرى هجرتها طوعا ؟، هل يستدير الظهر المطعون غدرا ؟، هل يستطيع العقل أن يفهم ويتفهم ؟، هل تقوى الأقدام أن تتبع ذات الخطى ؟، هل يجمعنا فرح وجرح ؟، هل نكتب معا معزوفة غيم ومطر ؟، هل نلتقي على أعتاب حلم ونتبادل السمر ؟، هل نقوى على البوح بمعارك الدم وطعنات الفجر ؟، هل يجمعنا ثريا الوطن وثرى القبر ؟، هل تشفع أرواحنا التي أكتوت على الجمر ؟، هل نستطيع فك الشفرة مابين الميلاد والموت ؟، هل يستطيع الزمن لظم العقد المنثور من أقصى الموقف حتى أقصى الفعل ؟، هل يلتقي مرج البحرين العذب الفرات والملح الأجاج ولايبغيان ؟، هل نكون واحدا حضورا أم نستعصي على الدم أثنان ؟، هل يسقط القناع قناعة أم يعيد الدمع إنتاجه وجهان ؟، هل ينتصر الحب فينا أم تموت المشاعر من الخذلان ؟، هل يكون ماكان كائنا أم يندثر ماكان ؟، وإن نسينا هل يتجاوز التاريخ ويكتب بمداد العفو والإحسان ؟، لنا قلب مؤمن ولهم صراع الوجود مع النسيان ، ولنا روح الطهر ولهم سعي الضمير بين الصحو والهذيان ، وللذاكرة منا طلب صفح عن جهلنا بمدى وحدود غدر الزمان ... الفارس الليبي


