سياسة التشويح
التشويح ، مصطلح غير مألوف في السياسة والعلاقات الدولية ، وليس في علمي أن هناك من استخدمه في وصف سياسات الدول قبل أن يعثر عليه ويستخدمه الصحفي الكبير المرحوم محمد حسنين هيكل ، فقد كتب في مطلع هذا القرن مقالًا في مجلة ( وجهات نظر الكتب ) المصرية ذكر فيه إنه التقى الرئيس الفرنسي الأسبق " فرانسوا ميتران " في قصر الاليزيه ثمانينيات القرن الماضي عقب إجتياح الكيان الصهيونى للبنان عام 1982 م ووجه له سؤالاً عن أمر يحيره ، فقد لاحظ كما لاحظ كل العالم ، أن بارجة فرنسية عظيمة ، أثناء الغزو الصهيونى ، كانت تقترب من سواحل بيروت حتى يراها الناس ثم تبتعد حتى تغيب في الأفق البعيد ثم تعود وتطل على السواحل من جديد وتعاود الغياب بين الأمواج العالية ، وفي لحظة ما غابت نهائيًا عن الأنظار عائدة إلى قواعدها في أحد مواني فرنسا دون أن تصوب مدفعاً أو تقدح شرارة أو تعرض نفسها لخطر النيران ، وتلك حركات مريبة بعثت الحيرة عند غير العارفين وحركت فضول " هيكل " ليسأل عن ذلك السيد الرئيس .
وقد ذكر الأستاذ أن " ميتران " اكتفى في البداية بأن ( يبرطم ) بكلام غير مفهوم بقصد وضع حد لفضول الصحفي وعلى أمل أخذ الحديث نحو أمر آخر ، غير أن ( البرطمة ) لم تكبح جماح هيكل بل دفعته للإلحاح على السؤال لتفسير الظاهرة وهو ما دفع الرئيس للبوح بمكنوناته ، وأجاب بأن فرنسا في تلك اللحظة كانت تمارس ( سياسة التشويح ) وهي سياسة تمارسها القوى العظمى في " لحظات العجز عن التصرف " إرضاءً لكبريائها ، فمن عادة القوى العظمى الرد على التحديات بقسوة تتلائم مع مكانتها وهيبتها ونفوذها ، وهي لا تسمح لقوة أقل منها بممارسة التحدي دون أن ينالها " القمع والعقاب " غير أن القوة العظمى ، قد تجد نفسها غير قادرة على مواجهة التحدي إلاَّ بكلفة ثقيلة ، فتكتفي بسياسة التشويح لتحاول الإيحاء بأنها لا زالت موجودة في مشهد القوة القادرة على التصرف ، لكنها تعرف أنها ليست قادرة عليه ، فتمارس التشويح لحفظ كبريائها ، لا أقل ولا أكثر .
وفي حالة فرنسا ، فإن لبنان هي ما هي بالنسبة للفرنسيين ، فهي جوهرة تاجهم وامتداد ثقافتهم ، أما بيروت ، التي تدكها المدافع ، فهي باريسهم الصغيرة في مشارق الأرض ، أما فرنسا ، بالنسبة لكثير من اللبنانيين هي " الأم الرؤوم " في ساعات المحن الكبيرة ، غير أن فرنسا العظمى كانت عاجزة عن الفعل بسبب موازين قوى عالمية لا تسمح لها بغير سياسية التشويح ، مثلها مثل الطيور الحنونة عند محاولاتها اليائسة لحماية أعشاشها من الصقور والثعابين ، فتظل ترفرف من بعيد آملة أن ينجح رفيفها في إبعاد الخطر ، وعند إدراكها بأن فراخها تحولت إلى فريسة ، تطير نحو السماء للنجاة بنفسها وبناء عش آخر .
وذلك هو سلوك القوى العظمى عند ( بداية ) طور الضعف والاضمحلال ، وهو الطور الذي بدأ يطل ولو ( من بعيد ) على الإمبراطورية الامريكية معلنًا غروب شمس عصر القطب الواحد وبزوغ الفجر الجديد للعالم متعدد الأقطاب .
في ثمانينيات القرن الماضي كتب المفكر الاميركي الكبير " بول كندي " كتابًا سماه ( نهوض وسقوط القوى العظمى ) درس فيه أحوال الإمبراطوريات في الخمسمائة سنة الأخيرة من عمر الإنسانية ، ووضع يده ، من خلال الدراسة العميقة ، على قوانين النهوض والسقوط ومؤشرات اضمحلال القوى العظمى ، وقد استنتج ، بما لا يدع المجال للشك ، بأن بلاده بدأت طور الاضمحلال ، وبعد عشرة أعوام ، أضاف كتابًا جديدًا ، سماه ( الاستعداد للقرن الحادي والعشرين ) أعاد فيه عرض استنتاجاته مؤكدًا أن الإمبراطورية الامريكية ستفقد مكانتها باعتبارها قطبًا وحيدًا مهيمنًا ، وأن أفضل ما عليها أن تفعله هو ( العمل مع الآخرين على بناء عالم جديد يقوم على التوازن المتعدد الأقطاب ) قد لاتكون فيه مجرد شريك بل دولة قائدة أشبه ماتكون برئيس مجلس ادارة في شركة رابحة ، وذلك - في ظنه - ممكن ومقبول إذا عرف قادة امريكيا أسرار التعامل مع قوانين توازن القوى وأصول إدارة الصراعات الدولية في منعطفات التاريخ .
وبعد بول كندي كتبت أقلام امريكية كثيرة ، وعلى الأخص بعد سقوط الإتحاد السوفيتي ، وكتب أصحابها عن ما يجب أن تكون عليه إستراتيجية المستقبل لضمان مكانة بلادهم في النظام العالمي الجديد ، وقد كان على رأس من كتبوا ثعلب الإستراتيجية الأعظم ووزير خارجية العصر ( هنري كيسنجر ) وهو أيضًا من ألمع الأكاديميين في عصر الحرب الباردة ، ومن بين كتاباته الغزيرة ، كتابه الأهم ( هل تحتاج امريكيا إلى سياسة خارجية ؟ ) قدم فيه خلاصة رؤيته للصراع الدولي في ضوء فهمه العميق لنظرية توازن القوى ومجمل نصائحه لزعماء بلاده ، ومن المحتمل أن أثمن نصائحه انصبت على التحذير من الانسياق وراء ديماغوجية " المحافظين الجدد " الداعية إلى تكريس الهيمنة بالقوة والتدخل في كل مكان لتأبيد وضع القطب الواحد ، فهو في ضوء تجاربه الواسعة وقراءاته العميقة ، كان مدركًا بأن الهيمنة الطويلة ، غير ممكنة ولا مقدور عليها ، ولذلك فإن على الولايات المتحدة الامريكية العمل ( بواقعية ) على بناء توازن متعدد الأقطاب ، تتولى قيادته ، برضاء الآخرين وليس رغم أنوفهم ، أما إذا توهمت أن بمقدورها إرغام الجميع ، فإن عالمًا جديدًا متعدد الأقطاب سيبنى رغم أنفها ، قد تشارك فيه دون أن تقوده ، ومع الزمن فإن مقود التحكم سيتحول نحو طرف آخر أكثر معرفة بالتفاعل مع قوانين التاريخ .
ومنذ أكثر من ربع قرن بدأت أكتب عن ظاهرة الهيمنة العابرة التي سيضع ( التمدد الإمبراطوري الامريكي ) نفسه حدًا لها وذلك إضافة لعوامل أخرى لا يتسع المقال لعرضها .
تعيش الولايات المتحدة الامريكية اليوم " لحظة الحقيقة المفزعة " ، فبعد هيمنة مطلقة دامت نحو ثلاثة عقود فرضت خلالها بالقوة سياساتها العدوانية الغاشمة بالغزو والاحتلال وإطاحة النظم وإرهاب الدول والمجتمعات وفرض إرادتها على المجتمع الدولي من خلال هيئة أمم متحدة ضعيفة ومؤسسات دولية هزيلة ، ها هي اليوم تدخل مرحلة التراجع والاضمحلال ، وشاهد ذلك ممارسة " سياسة التشويح " .
وأمامنا اليوم لقطات هائلة ، شديدة الوضوح ، تنطوي علي دلائل ممارسة هذه السياسة ، فبعد الهزائم المريرة في العراق والانسحاب المذل من افغانسان في جنح الظلام ، تقف شبه عاجزة عن مواجهة أزمة أوكرانيا ، فلم تجد غير اوربا البائسة لتتولي ، نيابة عنها ، مواجهة قوة روسيا وحصد الكوارث ، وها هي عاجزة عن مواجهة إيران بعد أن سلمتها العراق على طبق من ذهب ، فرغم المزاعم بأنها قادرة على محوها الكامل ، فإن الأمر لا يزيد عن التبجح ، ويخطئ من يظن أن امريكيا قادرة على فعل لم تفعله ، فهي لا تمتلك القدرة ولا الإرادة لقمع دولة قادرة على الردع مثل إيران وهكذا لم يتبق غير سياسة التشويح ، وها هي تقف عاجزة أمام الصين ، فبينما يرتفع شأن الصين بغزارة الإنتاج وتقدم العلم وتنامي القوة العسكرية بإنزال حاملات الطائرات وغزو الفضاء وإطلاق تجارب الصواريخ عابرة القارات واستعراض القوة على تخوم تايوان وفي بحر الصين الجنوبي ، لم تجد الامبراطورية الامريكية غير ارسال " نانسي بيلوسي " ( بسوس القرن الحادي والعشرين ) نحو تايوان والقوقاز ، لعلها تزرع الفتن وتبعث الضغائن وتشعل الحروب ، وكل ذلك ليس الاَّ تجسيداً لسياسة التشويح .
لم تعد الولايات المتحدة الامريكية ، بعد إجهادات التمدد الامبراطوري ، قادرة على مواجهة التحديات العظيمة ، ولم يتبق أمامها غير ممارسة سياسة التشويح عن طريق الاحتفال بالانتصارات الصغيرة من نوع قتل " أيمن الظواهرى " في كابول أو قصف زمرة من حركة الشباب المسلم في الصومال أو القضاء على عنصر داعشي في جبال اليمن ، ويا لها من لقطات تعكسها سياسة التشويح في كل المناسبات ، ففي جنازة القرن للملكة اليزابيث ، لم يحظ زعيم الدولة العظمى الاَّ باستثناء صغير تمثل في السماح له بالوصول إلى مكان الجنازة بسيارة الرئاسة دون أن يحشر في حافلات تضيق التنفس ، أما في مراسم الجنازة فقد وضع في الصف ( الرابع عشر ) وراء من هم وراء وراء الملك ووجد أمامه أمراء صغاراً لا يعرفهم وعن يمينه وشماله ملوك لم يسمع بممالكهم وساسة لا يعرف غير القليل عن أوطانهم ، وقد ظهر في المشهد الحزين كئيبًا شاحبًا أقرب ما يكون لمومياء فرعون جاء من عصر سحيق وليس زعيمًا لدولة عظمى عليه أن يحرص على هيبتها مهما كانت قواعد المراسم ، في مملكة تمارس ، هي نفسها ، سياسة التشويح ولو في مناسبات الجنائز !! .
ولقد طالت سياسة التشويح هيئة الأمم المتحدة ، وهي بمعنى ما ، أقرب ما تكون إلى دوائر وزارة الخارجية الامريكية ، فالهيئة المعنية بالحفاظ على السلام والأمن الدوليين ، تحولت في مناخ سياسية التشويح ، إلى ( وسيط ) لبيع سنابل القمح الأوكراني والسماد الروسي !! .
إننا سنجد من يجادل ، وخاصة من أبواق امريكيا وعملائها ، وأكثرهم من المهاجرين العرب ، المحكومين بذل عقد النقص ، بأن الولايات المتحدة الامريكية ، ستظل القوة الأعظم وستنتصر على روسيا والصين وإيران … الخ فهي مازالت بلد الاقتصاد الأقوى والقوة العسكرية الأعظم والحرية المزدهرة والديموقراطية الملهمة ، والواقع أن هؤلاء الموتورين ، لا يعرفون صيرورة التاريخ ولا خبايا قوانين الصراع ولا كيفية نهوض وسقوط القوى العظمى .
إننا نعرف أن القوى العظمى ، مثل الملاكمين الكبار ، لا تسقط فجأة بالضربة القاضية ، لكنها تتهاوى بالتدريج حتى تعود إلى حجمها الطبيعي ، وأول علامات نزولها البدء في ممارسة سياسة التشويح !!
أ . د . ابراهيم ابوخزام