سورة يوسف عليه السلام سورة مكية وترتيبها في نزول السور المكية (52) وترتيبها في المصحف الشريف السورة (12) وعدد آياتها (111) آية
وهي أول سورة مكية حملت من مكة إلى المدينة المنورة حملها ( عوف بن عفراء ) وهو أحد الثمانية الذين بايعوا الرسول وكانوا أول الأنصار إسلاما
وفاتحة السورة الكريمة تقول ( ألر تلك آيات الكتاب المبين / إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون / نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) آيات 1/ 2/ 3 /
وهي السورة الوحيدة التي جاءت من أولها إلى آخرها تحمل " قصة " واحدة وموضوعا واحدا لاغير فــ هي من افتتاحها إلى ختامها تحكي قصة يوسف عليه السلام ويوسف هو الذي قال عنه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ( هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إبراهيم ) فهو نبي سليل أنبياء عليهم السلام
وجاء ختام السورة المباركة يؤكد استهلالها ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ماكان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء
وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) آية (111)
ومن أجل هذه " العبرة " لأولى الألباب نزلت سورة يوسف هديا وتبيانا وتوضيحا لما ينشأ في " البيت " الواحد الطيب من خلافات وتنافس يصل أحيانا إلى درجة" الكيد " ولكنه ـــ مع الرعاية والتقوى ــ يظل " كيدا " تسيطر عليه " التقوى " وتحكم فيه " العقيدة " وختام السورة جاء واضحا (تفصيل كل شيء
وهدى ورحمة لـــ قوم يؤمنون ) فــ الإيمان هو الميزان الذي لايغيب ولايخيب
فــ إخوة يوسف رغم ضيقهم به وضيقهم بــ قربه من والدهم وتفضيله له عليهم أو هكذا كانوا يرون ويحسون إلا أنهم كانوا يتقدمون يدفعهم " الحسد " ليوسف ويدفعهم الكيد والتأمر عليه ثم هم يتراجعون يردهم الإيمان وتحكمهم التقوى
فــ هم يجتمعون لـــ يتدبروا أمر يوسف وطريقة الخلاص منه تحت أي ظرف حتى ولو كان بــ القتل فيقول أحدهم مقترحا عليهم ( اقتلوا يوسف أواطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم ) فــ هم لكي يخلو لهم وجه أبيهم وينفردوا بقربه ومحبته كانوا يخططون حتى لقتل يوسف ولكنهم كانوا يرون ذلك طريقا إلى " الصلاح " و" الفلاح " ولهذا كانت خاتمة التدبير هنا ( يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين ) فهم يبحثون عن " الصلاح " وأنانيتهم وفهمهم المحدود فيهم هم لاغير يصور لهم
" الصلاح " في " إقصاء " أو " تصفية " يوسف
وهكذا هو الإنسان حين يكون " سجين " هواه و"حبيس " مصالحه تختلط عنده
" المصلحة" بــ " الصلاح " مع أن الفرق بينهما واسع جدا
فــ المصلحة أنانينة ضيقة لاتسع غير صاحبها
والصلاح سماحة ورحابة تسع الجميع
ولكن " الإيمان في إخوة يوسف لايغيب رغم الأنانية والأفق الضيق
فــ هم اققترحوا قتل "يوسف " ولكنهم سرعان ماتراجعوا تحت ضغط التربية الصالحة وتحت ضغط الإيمان الراسخ فـــ ( قال قائل منهم لاتقتلوا يوسف وألقوه في غيابات الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين ) فــ استقر رأيهم على (نفيه ) و(عزله ) و(والتخلص منه ) ولكن مع المحافظة على حياته
وكان والدهم سيدنا يعقوب يدرك ـــ بحسه العالي ــ مايدور في نفوس أبنائه
وهو أحس هذا منذ أن صارحه يوسف بــ خبر رؤياه التي رآها في النوم
( يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين )
فقال الوالد الخبير الملهم والعليم بأطوار النفس البشرية وهو تربية "خليل الرحمن " سيدنا إبراهيم عليه السلام قال لــ لولده ناصحا عالما عارفا محذرا ( يابني لاتقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا ) وفسر " الكيد " ومصدره تفسير المؤمن الخبير بنزغ الشيطان وكيده وخبثه فقال ( إن الشيطان للإنسان عدو مبين )
فــ عرفنا نحن ـــ نحن القراء للسورة ـــ وعرف يوسف وهو يسمع والده أن ماسيكون من "تدبير " وكيد فيما سنعرفه إنما هو " نزغ الشيطان " يهجس به في نفوس إخوة يوسف ولكنهم لم يكونوا صيدا سهلا له فــ قد بقي فيهم من الإيمان مايعصمهم قليلا ولم يكونوا " عدوا واضحا " للشيطان يرد نزغه بالتقوى العالية
كانوا بين بين .... بقي فيهم إيمان يعصمهم عن كبير المعاصي
ولكن إيمانهم كان أضعف من أن يعصمهم عن تدبير الشيطان الرجيم
ولهذا كانت " قصة يوسف " عبرة لأولي الألباب "
فيها الكيد بــ كل ألوانه وخبثه وفيها استعانة يوسف بــ مولاه
وفيها صبر يعقوب و"استعانته "الخالصة بالله في أحلك المواقف
وفيها ــــ أيضا ــــ ماتعرض له يوسف فيما بعد من كيد امرأة العزيز وماجرى له مع " صاحبي السجن " وماحدث بينه وبين " الملك " وكيف ارتقى يوسف بحكمته وعلمه وتوفيق مولاه وتسليمه هو لــ مولاه إلى أعلى المراتب حتى وجد إخوة يوسف أنفسهم يشحذون معروفه ويستجدون رضاه وفضله وهم لايعلمون
وعبر كل مراحل القصة كان يوسف " معتصما بالله " ومفوضا أمره إليه
حتى إنه اختار " السجن " لكي ينجو من " المعصية " فقال لهم (السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ) وقاله وهو يناجي مولاه مناجاة المؤمن المستسلم بثقة
ولـــ هذا كله كانت " سورة يوسف " تدور في " البيوت " والعائلات المسلمة درسا في الطاعة والتسليم ودرسا في العفة والوفاء ودرسا في " الخلل " بين الإخوة ومايجري في " البيوت " من حسد وإقصاء وعزل ونفي وتشريد
كيف ترتفع الرغبة الرخيصة في الحي حتى تجف نفسه من المودة والمحبة ويتحول إلى " مخلوق " لايرى غير نفسه ولايفكر في غير مصلحته ولايريد إلا غايته الرخيصة البخيسة وهو بذلك يلغي كل من حوله ويمسخ تقواه ويتجرد من خالقه وينسى شرعه وينحاز للشيطان ضد أخيه الإنسان بل أخيه في الدم والنسب والدين
وإخوة " يوسف " كانوا نموذجا للــــ مؤمن " الضعيف "
فــ هم رفضوا أن يقتلوه ولكنهم اختاروا أن " ينفوه " وأن يعزلوه ويبعدوه
غلبوا الشيطان فلم يقتلوا أخاهم
وغلبهم الشيطان فلم يقتلوا أحقادهم
ويظهر ذلك واضحا فيهم وهم يواجهون يوسف في ذهول وقد " عرفهم وهم له منكرون )
هو عرفهم لأنه لم يخرجهم من نفسه ولم يمسحهم من قلبه
وهم " له منكرون " لأنهم لم يتخلصوا من " حقدهم عليه "
فــ هم أنكروه حتى وهو بينهم وأنكروه حتى تخلصوا منه ليرتاحوا وليكونوا " من بعده قوما صالحين " كما يقول إعلامهم فلاصلاح لهم ـــ فيما يرون ــــ إلا بالخلاص من يوسف وضاقت نفوسهم أن يكونوا " قوما صالحين " جميعا هم ويوسف
فــ الصلاح عند " الأناني " لايكون إلا بإلغاء خصمه والخلاص منه
ولكنهم كانوا ـــ رغم كل هذا ـــ يراعون أباهم ويحترمون وعدهم له
وكانوا يعرفون للوالد حرمته وكان فيهم شعور خفي يراودهم بالغلط الذي ارتكبوه في حق الوالد الكريم وفي حق يوسف فقالوا لـــ يوسف وهم لايعرفونه حين أمسك يوسف أخاهم الصغير رهينة لاتهامه بسرقة " صواع الملك " في توسل ورجاء
( يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين )
ولكن يوسف رفض ذلك وتمسك بحكم الشرع فالسارق هو الذي يؤخذ لأنه سرق
( فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا ) أي عزموا على الرحيل وهنا قال كبيرهم ( ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف )
وصارحهم بما في نفسه وربما بما في نفوسهم من الندم فقال ( فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين )
وهو اعتراف ينزف ندما ويفوح صدقا على التفريط القديم في يوسف
وعلى الخطإ الجديد في الأخ الصغير
وبقيت في " السورة " ( قبسات ) نعود فنلقاها غدا بعون الله تعالى


