( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا
وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل / فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء
واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم / إنما ذذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم .... وخافون إن كنتم مؤمنين )
سورة آل عمران آيات 173/ 174/ 175/
أشرقت شمس الإسلام بـــ نورها على الدنيا المظلمة الحائرة وكان العالم ــ وقتها ــ مقسوما بين القوتين الكبيرتين الطاغيتين على كل الدنيا
ـــ الفرس
ـــ الروم
وكان كل ما عداهما يجري في فلك " التبعية " والخضوع لهما
كان العرب ــ وقتها ــ مجموعة متفرقة متشرذمة من "القبائل " يغير بعضهم على بعض وتسيل دماؤهم في الثارات الفارغة التي لاتتوقف وإنما تتوالد موتا وفناء
العرب كانوا في جاهليتهم الغارقة في " العناد" الذي لايلد إلا الكوارث والعدم
الجاهلية ليست ألا "تعرف " .. الجاهلية أن تعرف ولكن "معرفة مشوهة " تنطلق من "الهوى " وتلوّنها الأنانية وتصبغها الرغبات السافلة الصغيرة
ليست الجاهلية " أمية " القراءة والكتابة كما هو شائع ... كلا
فالعرب ــ كما يدل تاريخهم وشعرهم ـــ كانوا يعرفون القراءة الكتابة وكانوا تجارا وكانوا يخالطون العالم في ركة دائبة دائمة وكانت " مكة" ملتقى الحج والتجارة والأدب والمهرجانانت اللتي لاتتوقف فــ الجاهلية لاعلاقة لها بالأمية
الجاهلية هي أن يستعبدك الأمس والعادات والتقاليد وأن يستعبدك هواك وما أحاط بك من المعرفة " المشوهة " التي يكون فيها " السيف " حجة والقوة الغاشمة دليلا وتعتمد على فرض القوي لرأيه ورؤيته على اتباعه و"القوي " يستفيد من فرض رؤيته على اتباعه فهو يتنعم وهو مذكور هو سيد وهو شيخ وهو الزعيم وهو الممدوح وهو الرأس والرئيس ولهذا فهو يسوق غيره كما يسوق قطيع الغنم والإبل بلا أدنى فرق
كان العرب حين أقبل الإسلام بنوره رعاة عراة تفرقهم الأحقاد التي يفجرها ويرعاها "السادة " لكي يحتفظ كل منهم بامتيازاته وسطوته وثرواته ومكانته العالية
ولهذا كان كل سيد منهم يسوق قطيعه وراءه يرميهم في الحروب والموت ويرمي لهم ما يجود به عليهم من بقايا زاد هو من أنتاجهم هم وشقائهم
و" أيام العرب " التي تصور معاركهم الفارغة السافلة التي كان يفجرها ويصطنعها السادة اصطناعا لكي يحافظ كل منهم على مركزه وسيادته كما نقرأ عن " حرب البسوس " و"حرب داحس والغبراء" والقطيعة التي كانت بين " الأوس " و" الخزرج " في المدينة والتي كان يرعاها ويفجرها "يهود المدينة " حتى يظل اليهود أسياد المدينة التي قسموها بين عدوين هما الأوس الخزرج وكان اليهود يساعدون هذا ويعينون ذاك حتى لاتتوقف الحرب والخصومة والثارات والدم السيال
و" الرعاة العراة " كانوا يهزون رءوسهم الجاهزة للموت بلا مقابل في سبيل مالا يعرفون ولا يدركون إلا " قصائد الفخر " و"معلقات النفخ " التي كان الشعراء (وهم الإعلام الرهيب ) ينشرونها وينثرونها ينفخون بها الأحقاد وينفخون بها النفوس حقد وكراهية وقبلية ضيقة حتى تقسمت القبيلة الواحدة قبائل قبائل صغيرة متفتتة بين " السادة " الذين كانوا يقسمون القبائل لكي يجعلوا لأنفسهم مكانا ومكانة ومقاما عاليا
كان الرعاة العراة يموتون بلا سبب ولامبرر .... يدفعهم نفخ الشعراء ونفخ الفخار ونفخ الحقد ونفخ الكراهية حتى كانوا
( لايسألون أخاهم حين يندبهم / في النائبات على ماقال برهانا )
حتى صار هذا " اللابرهان " برهانا في الحياة وفي الدين وتلك هي " الجاهلية "
هي الحرب والموت والحقد من أجل لاشيء
مجرد سيد يتربع على جماجمهم ويلعب بحياتهم
وشعراء ينفخون فيهم الفخار الذي يصورهم أسودا ووحوشا وقوة لاتقهر ويرسم لهم انتصاراتهم كانها "ملاحم المجد " وهي في الحقيقة عار لو كانوا يعلمون
فـــ كيف تحول هؤلاء الرعاة العراة الجاهليون إلى " سادة وقادة فاتحين " ؟
باختصار ذلك هو ما يفسره لنا قوله تعالى " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل إلخ )
باختصار فإن الرسول العظيم لم يستورد " أمة " من خارج الجزيرة
كلا ... ولكنه نفخ في " القبائل " المتفرقة المتشرذمة روح " الأمة "
خرج بهم من " ظلمات الجاهلية " إلى " نور الإسلام "
ومن عقل " القبيلة " إلى " عالم الأمة "
نفخ فيهم " روح الإيمان " فـ انطلق بهم من " ضيق الجاهلية " المحبوسة تحت "السيد " قطيعا يسوقه " السيد " إلى " رحابة " الإيمان الواسع
خرجوا من "عبادة المخلوق " الكاذبة إلى "عبادة الخالق العظيم "
كانوا يعتزون بالقبيلة فــ صاروا يتعزون بـ الله تعالى
كانوا يرون الحياة " قتالا وقتلا " فــ صاروا يرونها "جهادا "
والقتل عدوان وطغيان وأنانينة وكراهية
والجهاد جهد وعمل باللسان وبالدليل وبالحجة وبالعقل قبل السيف
ولايكون "السيف " إلا دفاعا عن عقيدة أو روح
وهو في كل حالاته ليس إلا نوعا من أنواع الدفع والدفاع
وعرفوا يقينا أن " الله لايحب المعتدين "
وفهموا يقينا أنهم يتعاونون " على البر والتوى " ولا يتعاونون " على الإثم والعدوان " ولهذا فهم يعتزون بــ مولاهم ويؤمنون إيمانا جازما لاشك فيه " أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين " وتحت رايية الإيمان توحدوا واجتمعوا ورموا أحقادهم بشعرها وثاراتها وعدواها وأيامها وحكاياتها وراء ظهورهم فـــ أصبحوا بنعمة الله أمة واحدة
وعرفوا يقينا أنهم كانوا على " شفا حفرة من النار " فأنقذهم الله منها
ولــــ هذا فهم حين " قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم " ردوا رد المؤمن الواثق العارف المطمئن " حسبنا الله "
يقول الرسول الكريم لابن عمه عبد الله بن العباس وقد كان في طور الصبا ولكنه كان ينهل من فيض ابن عمه الرسول الكريم /// يقول له ناصحا ومعلما
نصيحة ابن العم ونصيحة الرسول
ونصيحة العارف المجرب الذي اكتوى بالشدائد وعبد ربه حتى اتاه اليقين
( يافتى .... اسمع مني كلمات تنفعك اليوم وغدا
إذا سألت فــ اسأل الله
وإذا استعنت فـــ استعن بالله
واعلم أن أهل الأرض لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك واعلم أن أهل الأرض جميعا لو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك )
يصغي الصبي الفاهم العاشق للرسالة وللرسول وللحكمة
ويسكت الرسول العظيم قليلا قبل ان يتناول يد الصبي الذي يتابع في لهفة
ليقول له باسما وهو يشد علىى يده ( جفت الأقلام ورفعت الصحف )
وهذا الإيمان العميق الذي نفخه الرسول في هذه القبائل هو الذي يفسر لنا هذا المجد الباذخ العظيم الذي سطره المجاهدون الذين اعتصموا بالله وقالوا في إيمان عميق ( حسبنا الله ونعم الوكيل / فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء )
لأنهم كانوا يعرفون يقينا أن هذه الإشاعات وهذه التهويلات وهذه " التخويفات " إنما هي من وحي الشياطين " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه " إي نعم كل النفخ الذي يتفخه العدوا بدعاياته وإعلامه وكذبه وتغريراته إنما هو " نفخ شياطين "
( إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم )
إي وربي ... المؤمن المطمئن بالله لايخاف أولياء الشيطان
( وخافون إن كنتم مؤمنين )
هل تأملتم هذا الشرط للإيمان وللطمأنينة وللنصر
( إن كنتم مؤمنين )
النصر والطمأنينة والعزة مضمونة بلاشك ولكن بــ شرط
( إن كنتم مؤمنين )
وبـــ الإيمان وحده تجاوز العرب الرعاة العراة ظلمات الجاهلية
وانطلقوا ينشرون أنوار الإسلام لايخافون أولياء الشيطان
فــ من كان عزه بالله الدائم فـ عزه دائم لايموت
ومن كان عزه بــ ميت فــ عزه زائل لايدوم