سورة " البلد " مكية وترتيبها في النزول 35 وقد نزلت بعد سورة " ق " ...
وهي إحدى سورتين في الكتاب الكريم افتتحت بـــ ( لاأقسم ) والسورة الثانية هي سورة القيامة ( لاأقسم بيوم القيامة )
وتعبير (لاأقسم ) توقف أمامه العلماء والمفسرون والنحاة طويلا وقالوا فيه كثيرا ولكن الصيغة القرآنية واضحة في أنها تنفي القسم بـــ هذا البلد وتنفي القسم بــــ يوم القيامة ... وفي تعابيرنا المألوفة كثيرا أننا نؤكد القسم بنفيه فيقول أحدنا لصديقه ( وإن هذا الأمر ولاأحلف لك ... أومن غير يمين أو ... مالك علي يمين ) فـــ نفي القسم قد يكون أكثر توكيدا من القسم نفسه وكلمة (أقسم ) تناظرها كلمة ( أحلف ) فالقسم أخو الحلف ولكن الاستقراء لألفاظ وتعابير القرآن الكريم يثبت لنا أن (الحلف ) في الذكر الحكيم مرتبط بــــ (الحنث ) و(القسم ) ليس له ارتباط بالحنث وربما دلنا على ذلك قرب كلمة (حلف ) في لفظها من كلمة (حنث ) بينما لاتلازم بين الحنث والقسم
تبدأ السورة الكريمة بقوله تعالى ( لاأقسم بهذا البلد .. وأنت حل بهذا البلد )
و" هذا البلد " بالتعريف (ال ) واسم الإشارة (ذا ) مسبوقا بالتنبيه (ها ) هو مكة المكرمة وقد تكرر هنا مرتين متتاليتين في نسق بديع متناغم أعطانا شرف البلد وشرف التنويه به ومنحنا الإحساس بـــ شرف من حله وسكنه الذي يخاطبه مولاه بقوله (وأنت ) فمن أجله صلى الله عليه وسلم تكررت (هذا البلد ) كأنما ذكرها مولانا مرة لأجلها هي ومرة لأجل الرسول الكريم فقال عنها (لاأقسم بهذا البلد ) وقال عنه ( وأنت حل بهذا البلد ) وكونه صلى الله عليه وسلم (حل بهذا البلد ) جعله شاهدا ومعاصرا لماكان يرى من منكر يفعله أهل هذا البلد يؤذون به الرسول الكريم كأنهم بذلك يستحلون حرمة البلد وحرمة من هو (حل بهذا البلد ) وقد كان صلى الله عليه وسلم رأى منهم في بداية دعوته أذى كثيرا وظلما مرا وضيقا شديدا وتعنتا قاسيا فماتركوا شيئا منكرا مؤذيا إلا وفعلوه له صلى الله عليه وسلم بل ونال الأمر كثيرا من أسرته ومن كان معه على أمره ولهذا يقول تعالى
( ووالد وماولد/ لقد خلقنا الإنسان في كبد )
فالحياة المستمرة المتلاحقة (والد وماولد ) تؤكد في كل مانرى منها ومانعيش فيها أن الإنسان يكابد فيها ويصارع مشاكله ومشاغله ويرى مالايحب ويعيش مالايريد ويصبر على المر ويبتلع الغصائص وما الحياة إلا (مكابدة) ومغالبة ومصابرة .... ومن البلاغة البليغة أن مولانا قال (خلقنا الإنسان ) ولم يقل (جعلنا ) فالأمر أمره والخلق خلقه ....
وبعد هذه المقدمة والموعظة والعبرة التي يسوقها مولانا تعالى لنبيه الكريم يطيب خاطره ويرفع معنوياته في وجه من آذوه وهو (حل بهذا البلد ) يبدأ القرآن الكريم في عرض بعض ماكان يرى الرسول الكريم من أهل (هذا البلد ) من سلوك وعقائد وأفعال منكرة يقول الذكر الحكيم مستعرضا بعض أنماط المنكر متحدثا عن الإنسان عامة
( أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يقول أهلكت مالا لبدا )
وتأملوا الفخفخة والتكاثر والمفاخرة الفارغة إنه لايقول (صرفت مالا .. أنفقت مالا ... خسرت مالا ... بذرت مالا ) كلا وإنما هو يتفاخم ويتفاخر فيقول
( أهلكت مالا ) وليس الذي أهلكه في الفراغ والإسراف مجرد مال قليل ولكنه (مالا لبدا ) و" اللبد " (المتلبد بعضه على بعض حتى صاركتلة كأنها تعسلت
وتلبدت صوفا أوحريرا مختلطا ) ... وذلك دلالة على الكثرة الكاثرة التي تهلك المال قناطير قناطير وسبائك سبائك ....
ويشدك أن الإنسان المتفاخر المكاثر كان يحسب ( أن لن يقدر عليه أحد ) يشدك النفي بــ لن ... ولن أداة نفي تدل على نفي القادم في المستقبل فكأن هذا الذي يقول أهلكت مالا لبدا كان يطالع الغيب ويقرأ الآتي ويعلم القادم فيقول .... لن يقدر عليه أحد
إنه يمسح القادم بجهله وتفاخره وتكاثره ويجعل شهوته وسهوته إلها يعبده حتى إذا ضربته الأيام وخنقه المقدور ووجد نفسه مجرد عبد تحت أمر وعلم خالقه عرف أنه لم يهلك مالا لبدا وإنما هو ... أهلك نفسه وأحرقها بنار شهوته وللتذكير بهذه الحقيقة يقول تعالى
( أيحسب أن لم يره أحد ) و(لم) أداة نفي تجعل الحاضر ماضيا
إنها "تنسف" الحاضر الذي بين يدينا فـــ يتبخّر لـ يصير بقايا من ماض تبخر
أرأيتم حصاد الجهل والغرور ؟
جهل الإنسان حين كان "يحسب أن لن يقدر عليه أحد" فاستبد بالمستقبل وهذا هو حصاد غروره وجهله وطمعه وانسلاخه من إيمانه
جعله الآن يقلب حاضره ماضيا ... جهله قلب الزمن فتسرب الحاضر من بين يديه فصار ... ماضيا ( أيحسب أن لم يره أحد ) ولمواجهة الحقيقة يقول تعالى مذكرا عبيده
( ألم نجعل له عينين .. ولسانا وشفتين ... وهديناه النجدين )
الخطاب للإنسان ... الإنسان الذي
ــــ خلقنا الإنسان في ( كبد )
ـــ أيحسب أن لن يقدر عليه أحد
ـــ أيحسب أن لم يره أحد
الإنسان الذي أعماه طمعه وأخرسه هواه وأضله عناده فوقف بطمعه وضلاله وعناده في وجه الدعوة الغراء السمحة التي أقبل بها هذا الرسول الذي هو (حل بهذا البلد )
هذا الإنسان المتعامي وقد جعل الله له عينين
المتخارس عن الحق وقد منحه الله (لسانا وشفتين )
المتردد عن متابعة الحق وقد (هديناه النجدين )
لقد منحه الله تعالى كل أسباب الهداية وأدوات البصيرة وعلامات الخير فهو يتقلب في نعم الله من نعمة البصر إلى نعمة الكلام والبيان إلى نعمة البصيرة والإدراك ولكنه مع ذلك يغرق في ضلاله وشهوته وطمعه وعناده وبلادته وتفاخره وتكاثره ولهوه ولعبه وغروره
... بعد ذلك تتم المواجهة الكبرى بالسؤال الكبير
ـــ أين الميزان الثابت الذي يرافقنا ولايفارقنا
ــــ إياك نعبد وحدك بلا شريك
ــــ وإياك نستعين في كل مايلقانا من مصاعب
فـــ إذا ثبت "الميزان" فقد ثبت الإيمان
وإذا استقر الإيمان فقد ثبت الإنسان
أما إذا اختل "الميزان " فــ عبد الإنسان جهله وغروره
واستعان بــ ماله وجاهه لــ كي " يخلده " ويمنع عنه الموت والفناء
فــ إن الإنسان عندئذ يمسح حاضره ويفقده من بين يديه فهو " يعيش" بلا حاضر
ولاوجود ... حاضره يتبخر ليصير "ماضيا " وماضيه يلقاه نارا موقدة
وهي "نار عليه موصدة " وذلك هو " الحاضر" الذي ولده ماضيه
ف،،، " من يعمل مقال ذرة خيرا يره
ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره "
فــ اللهم ثبتنا وثبت قلوبنا على ميزانك الحق
ــــ إياك نعبد فلا تغرنا ولاتغرينا أطماع متاع الغرور
ـــ وإياك نستعين وأنت " نعم المولى ونعم النصير "


